الإيجابية السامة: متى تتحول العبارات التحفيزية إلى عبء نفسي؟

 



الإيجابية السامة: متى تصبح العبارات التحفيزية ضارة؟ – دليل شامل لفهم الجانب المظلم للتحفيز الزائف

في زمن تنتشر فيه عبارات مثل:
"فكر بإيجابية دائمًا"،
"كل شيء سيكون على ما يرام"،
"لا مكان للمشاعر السلبية"،
قد يبدو أن الإيجابية هي العلاج السحري لكل ما نمر به.

لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك. ليس كل ما يُقال على أنه تحفيزي صحي بالضرورة.
في الواقع، ما يُعرف اليوم بـ الإيجابية السامة أصبح أحد أكثر السموم النفسية انتشارًا، والتي تؤدي إلى قمع المشاعر الحقيقية، تجاهل الألم، وتعميق الشعور بالوحدة.

في هذا المقال، سنناقش بتفصيل علمي وإنساني:

  • ما هي الإيجابية السامة؟

  • لماذا تبدو جيدة من الخارج لكنها ضارة من الداخل؟

  • كيف نفرق بين الإيجابية الصحية والسامة؟

  • وكيف نحمي أنفسنا ومن نحب من آثارها؟

ما هي الإيجابية السامة؟

الإيجابية السامة هي الترويج المفرط وغير الواقعي للإيجابية، حتى في الأوقات التي تكون فيها المشاعر السلبية منطقية ومشروعة.
هي إجبار النفس أو الآخرين على "التفاؤل" بشكل دائم، بغض النظر عن الظروف المؤلمة أو الصعبة.

مثال:

شخص فقد عمله أو أحد أحبائه، وعندما يعبّر عن حزنه، يُقال له:
"كن إيجابيًا!"
"كل شيء يحدث لسبب!"
"لا تبكِ، ابتسم للحياة!"

هذه العبارات، رغم نواياها الطيبة، تنكر مشاعره الحقيقية وتدفعه نحو كبت ألمه بدلًا من معالجته.

الفرق بين الإيجابية الصحية والإيجابية السامة

الإيجابية الصحيةالإيجابية السامة
تعترف بالمشاعر السلبية وتُعالجهاتنكر المشاعر السلبية وتكبتها
توازن بين الأمل والواقعتتجاهل الواقع المؤلم
تمنح المساحة للتعبير والشفاءتدفع للشعور بالذنب عند الحزن
تشجع على التعاطف مع الذاتتروج للإنكار وكأن كل شيء على ما يرام

كيف تؤثر الإيجابية السامة على الصحة النفسية؟

1. قمع المشاعر

عندما يُمنع الشخص من التعبير عن ألمه أو غضبه، تتراكم هذه المشاعر داخليًا وتتحول إلى توتر مزمن أو حتى اكتئاب.

2. الشعور بالذنب بسبب المعاناة

بدلًا من تقبّل الألم كجزء طبيعي من الحياة، يبدأ الشخص بالشعور بأنه "ضعيف" أو "سلبي" لأنه لا يشعر بالسعادة طوال الوقت.

3. فقدان التعاطف الحقيقي

الردود التحفيزية الجاهزة تقطع التواصل العاطفي، وتمنع الدعم الحقيقي من الأصدقاء أو العائلة.

4. تقليل أهمية المشكلات

عبارات مثل "غيرك أحسن منك" أو "الحمد لله على كل حال" قد تُقال بنية طيبة، لكنها تُشعر المتحدث بأن مشكلته ليست مهمة أو مستحقة للاهتمام.

لماذا نمارس الإيجابية السامة دون قصد؟

  • الثقافة المجتمعية: كثير من المجتمعات تُشجع على كبت الحزن والتظاهر بالقوة.

  • الخوف من المواجهة: من الأسهل قول "كل شيء سيكون بخير" من أن نصغي لألم الآخر.

  • الجهل النفسي: عدم فهم أهمية معالجة المشاعر السلبية بطريقة صحية.

أشهر العبارات التحفيزية السامة ولماذا يجب التوقف عن استخدامها

  1. "لا تفكر بالأشياء السلبية"
    → التفكير ضروري للفهم والمعالجة. الكبت ليس حلًا.

  2. "كن ممتنًا، غيرك في وضع أسوأ"
    → المقارنة لا تُخفف الألم، بل تزيد من الشعور بالذنب.

  3. "كل شيء يحدث لسبب"
    → لا يجب أن نبحث دائمًا عن تبرير للألم، بل عن دعم لفهمه.

  4. "ابتسم، الحياة جميلة"
    → الابتسام لا يجب أن يكون واجبًا، بل نتيجة لشعور حقيقي.

كيف تتحدث بإيجابية صحية دون أن تكون سامًا؟

✅ استمع دون مقاطعة

السماع الفعّال هو أكبر دعم عاطفي يمكن تقديمه.

✅ اعترف بمشاعر الآخر

قل: "أفهم أنك تمر بفترة صعبة"، بدلًا من: "تجاوز الأمر".

✅ لا تُسرع في تقديم الحلول

أحيانًا يريد الشخص فقط أن يُسمع ويُحتضن، لا أن يُصلّح.

✅ شارك تجاربك بلطف

"مررت بتجربة مشابهة، وكان الأمر مؤلمًا جدًا لي أيضًا"، هذه الجملة أقرب من "أنا عديت من أسوأ، وأنت قوي وتقدر!"

هل يمكن أن تكون إيجابيًا وتشعر بالحزن في الوقت نفسه؟

نعم، وهذا هو التوازن النفسي الصحي.

الإيجابية الحقيقية لا تعني إنكار الحزن، بل تعني الإيمان بأننا سنخرج منه بخطوة تلو الأخرى.

هي القدرة على الجلوس مع الألم، دون أن نغرق فيه، ودون أن نحاول طرده بالقوة.

وسائل عملية لتجنب الوقوع في فخ الإيجابية السامة

  • درّب نفسك على تقبّل المشاعر السلبية كجزء من التجربة الإنسانية.

  • اقرأ عن الذكاء العاطفي وتعلم كيف تُفرّق بين الدعم والتقليل من شأن المشاعر.

  • مارس الامتنان الواقعي: لاحظ ما هو جيد، لكن لا تتجاهل ما هو صعب.

  • احط نفسك بأشخاص يُشجعونك على التعبير بحرية دون أحكام.

  • استشر معالجًا نفسيًا إذا شعرت أنك تميل إلى قمع مشاعرك باستمرار.

التأثير المجتمعي للإيجابية السامة

عندما تسود الإيجابية السامة في الإعلام، والعلاقات، وبيئة العمل:

  • يُصاب الأفراد بالاحتراق النفسي دون مبرر واضح.

  • تُمنع حوارات الصحة النفسية الحقيقية.

  • يُصبح الحديث عن الاكتئاب أو القلق وصمة بدلًا من أن يكون حقًا مشروعًا.

خلاصة: كن واقعيًا، لا ساذجًا... إيجابيًا، لا سامًا

الإيجابية السامة ليست دعمًا، بل قناعًا يُخفي المعاناة.
لن نبني مجتمعات صحية نفسياً حتى نعترف بأن:

  • الألم موجود

  • الحزن مشروع

  • وكل مشاعرنا تستحق أن تُسمع وتُحتضن

فلنبدل عباراتنا الجاهزة بتعاطف صادق، ولنمنح أنفسنا والآخرين مساحة لنتنفس ونشعر دون خوف أو خجل.


تعليقات